أهم الأخبار

لجان نقابية

محاربون فى ملابس الوقاية

2020-12-27 02:00:00 محاربون فى ملابس الوقاية

يواجهون خطر الفيروس داخل غرف الرعاية
محاربون فى ملابس الوقاية
أطباء وممرضون يرتدون طاقما طبيا من ١٢ قطعة خانقة لحمايتهم من خطر الفيروس داخل العناية المركزة
صرخة أعضاء الفريق الطبى للمواطنين: الكمامة أهون من المرض فحافظوا عليها
تحقيق تكتبه: إيمان النجار
فى غرف العناية المركزة، محاربون بحق، أو كما يلقبهم البعض بالمحاربين الجدد، أطباء وتمريض، يواجهون الفيروس عن قرب، فى أشد صوره، الفيروس الذى تملك من الحالة وأودى بها لهذه الغرفة المخيفة، فهذه حالة على جهاز التنفس الصناعى، وأخرى تحتاج لشق حنجرى وثالثة ورابعة، هذه تبكى وأخرى تردد الشهادة وثالثة تهذى ورابعة تودع أهلها.
من ٨ إلى ١٢ ساعة فى تلك الغرف، ووسط آلام المرضى وصرخات الألم أبطال يؤدون مهمة وطنية، فى ملابس وقائية خانقة، لكنها واجبة، لا غنى عنها ملابس تضم ١٢ قطعة ومع ارتدائها، لا مجال للأكل ولا الشرب ولا حتى الدخول للحمام، فقط ما يسمح لهم به هو «التنفس».
داخل غرف الرعاية المركزة لحالات فيروس كورونا حكايات،درامية وقصص إنسانية ربما لم يقابلها الأطباء من قبل منها المبكية المحزنة، منها المخيفة ومنها ما يدعو للتفاؤل يرويها أبطالها الحقيقيون من أطباء وتمريض.
حكاية الدكتور محمود عكاشة مع حالات فيروس كورونا المستجد بدأت عندما أصبح ضمن فريق العزل بمستشفى قصر العينى التعليمى الجديد «الفرنساوى» فى الموجة الأولى كإخصائى رعاية مركزة لحالات عزل كورونا، الدكتور عكاشة مدرس مساعد الحالات الحرجة بوحدة شريف مختار للحالات الحرجة بقصر العيني، يقول «رغم اعتيادنا على العمل فى الرعاية المركزة وإداركنا أننا معرضون للعدوى فى أى وقت، لكن العمل فى ظل فيروس جديد مختلف، فأقصى درجات الوقاية من قبل كانت الجاون، الجوانتى والماسك، وزاد نسبيا فى فترة جائحة أنفلونزا الخنازير فاستخدمنا ماسك N٩٥، أما مع جائحة فيروس كورونا فبدأنا نرى الـppe، وهو اللبس الشخصى للوقاية من الأمراض المعدية، الذى لا يظهر أى جزء من اللبس أو الجسم.
الـppe كما يقول عكاشة له طريقة خاصة فى اللبس، أو الخلع بحيث لا يحدث أى عدوى متوقعة، فى البداية اضطررنا لمشاهدة فيديوهات عن طريقة اللبس والخلع، أساتذتنا كانوا فى متابعة مستمرة معنا يرسلون لنا فيديوهات أو لقاءات بطريقة زووم للتدريب على مكافحة العدوى، وبدأنا ندرب أنفسنا فى قصر العينى، ، فى الفترة الأولى كنا نتواجد بالمستشفى أسبوعا، نقسم أنفسنا ثلاثة شفتات، كنت فى شفت الليل من ٨ مساء حتى ٤ فجرا، فى البداية كان لدينا خوف كبير جدا، فهناك فرق بين الحالة المشتبهة والحالة الأكيدة، الحالة المشتبهة كان التعامل معها أقل خوفا لأنها متوقع ألا تكون مصابة، لكن مع أول حالة مؤكدة الإصابة أضعها على جهاز تنفس صناعى كانت «دقات قلبى فى السماء»، خوف طبيعى مثل باقى الناس فنحن بشر، والفيروس جديد علينا، بعد ذلك الخوف بدأ يقل تدريجيا مع التعود والحرص على الإجراءات الوقائية، وكنا كفريق طبى نتناول البلاكونيل كنوع من الوقاية المناعية».
«الرعب، الخوف كما يقول عكاشة كان من الأمور التى تظهر على مرضى فيروس كورونا بالرعاية المركزة، فكانت تصدر من بعضهم تصرفات أقرب إلى الهلع والجنون، فهم يشعرون بالموت، فجأة تجد مريضا ممن حالتهم تستطيع الحركة يجرى من الرعاية ونحضره ونحاول تهدئته، أما من لا يستطيعون الحركة فلهم تصرف آخر، فإحدى الحالات قامت بنزع كل الوصلات وصرخت «سيبونى عاوزة أموت عندى كورونا خلاص» وكانت رافضة لأى تدخل، وحاولنا تهدئتها وإقناعها، بأنها ليست فى خطر وأن هناك حالات أخرى أصعب منها بكثير.
بعض الحالات كنا نجد صعوبة فى إقناعها بتنفيذ خطوات ما للعلاج، أحد المرضى كنت أقنعه بالنوم على بطنه كطريقة لضبط التنفس والتهوية، لكنه كان رافضا بشدة أى شى وغير مقتنع به، وظللت أتحدث معه عن المرض وطرق العلاج، وتواصلت معى زوجته تعتذر عن طريقته الشديدة فى التعامل، حتى إننى أمسكت بورقة العلاج وشرحتها له بالتفصيل، وأقنعته بالنوم على بطنه، وظللت معه حتى استغرق فى النوم بهذه الطريقة وبعدما أحس بفائدة طريقة النوم اقتنع، وبدأ كل شفت يطلبنى، حتى تحسنت حالته.
ولأن قصر العينى الفرنساوى فى البداية كان يستقبل أساتذة الجامعة من مرضى كورونا، فكانت المواقف الأصعب باستقبال الفريق الطبى لزملائهم أو أحد أساتذتهم .
يتذكر الدكتور محمود استقبال الدكتور مدحت مرسى أستاذ التشريح بقصر العينى ويقول: كل من درس بالكلية يعرف الدكتور مدحت ، محبوب جدا، كان خبرا محزنا جدا، قصر العينى كله حزين، حالته كانت صعبة، الكل كان يدعو له وبفضل الله تحسنت حالته وخرج على خير، أيضا خبر مرض الدكتور هشام الساكت وكيل الكلية كان من الأخبار المحزنة جدا، كانت حالته صعبة ووضع على جهاز تنفس صناعى يعين شمس، وكان يتم الترتيب لنقله للفرنساوى وكنا نستعد لاستقباله لكن توفاه الله فى نفس اليوم».
المحزن كما يقول دكتور محمود «أن يدخل مريض فى حالة صعبة، ويجد الفريق الطبى نفسه عاجزا عن عمل شىء لإنقاذه، يتذكر الدكتور محمود حالتين تم وضعهما على «الإيكموا» مثل الرئة الصناعية وتوفاهما الله، فهذا الوضع يكون المريض فى حالة صعبة من الالتهاب الرئوى والصعوبة فى التنفس ونقص الأكسجين، يقول عكاشة كنا نبذل قصارى جهدنا، لكن قد لا يجدى ذلك، والأكثر تأثيرا أن منهم أطباء زملاء، أو أساتذة، وفى المقابل هناك حالات كانت صعبة أيضا وتحسنت حالتها ومازالوا على تواصل مع الفريق الطبى حتى الآن، تواصل للسؤال والاطمئنان، يعبرون عن شكرهم وامتنانهم، وهذا نتيجة الجزء النفسى فى تعامل الفريق الطبى، فالتعامل مع الحالات يكون بحرص صحيح، لكنه تعامل بحنان ومزيج من عبارات الطمأنة والأمل، يضيف عكاشة: كنت أتعمد الدخول والجلوس مع الحالات المدركة «الفايقة» أتحدث معهم عن كل العلاجات وفرص الشفاء، كان الحديث يفرق معهم كثيرا، كانوا يستجيبون للعلاج بسهولة أكثر، كثيرا منا كفريق طبى.
مواقف كثيرة مقلقة تعرض لها دكتور محمود ولكن أكثرها قلقا «كما يقول كانت فى إحدى المرات عندما كان يجرى تدخلا طبيا للحالة وفجأة «طرطش» الدم على ملابسه يقول: كنت مرعوبا، ظللت فى وهم يومين تقريبا، أيضا فى بداية العمل فى الأسبوع الأول، عند إجراء مسحة لنا عند الخروج من المستشفى، أحد الزملاء فى الفريق جاءت نتيجة التحليل إيجابية، المجموعة كلها ٤أو ٥ ظللنا فى رعب لعدة أيام، فكل منا يساعد الآخر فى اللبس حتى لا يحدث تسريب والتأكد من ذلك، فكان الخوف من أنه حدثت عدوى لأحد آخر، خاصة أننا كنا فى الأسبوع الأول من العمل».
مضيفا «جو من القلق كنا نعيش فيه فلو ظهرت أى أعراض تتعلق بنزلات البرد أو الأنفلونزا نتواصل مع بعض، لكن بفضل الله أنجزنا المهمة وحتى من أصيبوا من الفريق كانت إصابتهم خفيفة، فترة ذروة الإصابة أيضا كانت صعبة جدا فهناك حالات أقربائى أو قريبين منى حدثت وفاة لديهم، لم نستطع العزاء، فالوفاة كانت بكورونا، وممنوع التجمع، والعزاء بالتليفون فكانت مواقف صعبة.
ملابس الحماية.. معاناة لا بد منها
١٢ قطعة تقريبا يرتديها طاقم العناية المركزة «الطبيب والتمريض» قبل الدخول للرعاية للتعامل مع حالات فيروس كورونا المستجد فيما يسمى الـ PPE، الملابس الوقائية الشخصية، تبدأ -كما يقول د. محمود بارتداء الجوانتى، الجاون، غطاء القدم «أوفر شوز»، غطاء الرأس، ثم البدلة، والبوت، ثم جوانتى، بعد ذلك لبس الماسك الجراحى ثم الماسك N٩٥K، ثم النظارة، وأحيانا التقفيل بـ«البلاستر» لسد الفراغات، ثم جوانتى وأخيرا فيس شيلد، ويظل الطبيب ملتزما بهذا الطاقم ما بين ٨ إلى ١٢ ساعة داخل هذه الإجراءات الوقائية، مرحلة الاستعداد لارتداء هذا الطاقم وحدها تستغرق ما بين ١٥دقيقة إلى نصف ساعة فى المتوسط يتخللها تعقيم باستخدام الكحول والبيتادين، يقول دكتور محمود عكاشة «قبل الشفت بنصف ساعة يستعد عضو الفريق الطبى لارتداء الملابس الوقائية، البداية بالتطهير بالكحول والبيتادين، ثم البدء فى اللبس، بدلة الجراحة أولا، ثم لبس جاون له سوستة «أفارول» ندخل فيه الجسم كاملا ويستخدم لمرة واحدة بعدها نتخلص منه، ثم البوت البلاستيك، غطاء الرأس، ثم النظارة، وجاون ثانى، والماسك N٩٥، وأحيانا فيس شيلد، ثم جوانتى وممكن ارتداء ٣ جوانتى، بحيث إذا حدث أى تدخل طبى مع مريض يتم خلع الجوانتى الأول ثم الثانى وهكذا، فأقل عدد يرتديه عضو الفريق الطبى فى العناية المركزة كورونا ٢ جوانتى».
بعد كل هذا يتم اختبار الماسك والتأكد من أنه لا يحدث أى تسريب، أحيانا كانت تظهر مشكلات مثل ان يكون طبيب ذقنه طويلة فكان عليه حلق ذقنه لتقليل فرص التسريب، والطاقم الوقائى كله مستلزمات يتم التخلص منها ولا يعاد استخدامها.
يضيف دكتور عكاشة فى البداية كان لدينا ماسك «رسبيريتور» المستخدم فى الحروب الكيميائية لتنقية الهواء فنسبة حمايته عالية، لكنه صعب جدا فى التنفس، ويحدث جروحا فى الوجه، استخدمناه فى البداية للوصول لحماية بنسبة تصل الـ١٠٠ فى المائة، استخدمته يومين، ولكن صعب جدا وتنطبق عليه مقولة مصطلح «إنى أتنفس تحت الماء»، بعد ذلك استخدمت الـN٩٥، خاصة أنه أقل مدة نوبتجية كانت ست ساعات ومن الصعب الاستمرار بماسك الـ«رسبيريتور» طوال هذه الفترة والتى من الممكن أن تمتد لـ ٨ أو ١٠ ساعات، بل ويمكن أن تصل مدة الشيفت بالنسبة للتمريض إلى ١٢ ساعة وكل هذه المكونات للملابس الشخصية، تمثل عبئا ومعاناة.
وتظهر المعاناة أكثر فى صعوبة التنفس مع الماسكات، ثانيا دخول الحمام شبه مستحيل مع هذا الطقم لذلك فكل الفريق الطبى قبل الشفت بأربع ساعات يقلل تماما من الشرب والأكل ويتم تقصير مدة الشفت قدر الإمكان لتفادى مسألة الحاجة للدخول للحمام فمن الممكن عدم دخول الحمام طول فترة الشفت .
ثالثا الحاجة لتدخل طبى لمريض خاصة ممن يعانون من فشل تنفسى، يضيف عكاشة: فى إحدى الحالات كنت أجرى لها تدخلا طبيا، كانت الرؤية غير واضحة، الماسك أحيانا يخرج بخارا على النظارة، أظل أحرك رأسى يمينا ويسارا للوصول إلى أفضل جهة تحقق الرؤية جيدا، معاناة أخرى تتعلق بالجو، فمع كل هذا اللبس والتقفيل للجسم، الحر شديد خاصة شهور مايو، يونيو، يوليو، بل وحتى مع شهور الشتاء يكاد الشخص أن يختنق، خاصة أنه فى البداية كان هناك تخوف من أن التكييف ينقل العدوى، لذلك نخرج من الشفت وكأننا كنا فى «ساونا».
الدكتور محمد صابر الفقى إخصائى العناية المركزة بمستشفى كفر الشيخ العام ومستشفى بطليم المركزى للعزل حكايته مع الرعاية المركزة لمرضى فيروس كورونا المستجد بدأ مهمته في مواجهة كورونا مع بداية الموجة الأولى ومستمر حتى الآن، بعد تحويل مستشفى بطليم المركزى لمستشفى عزل،، يقول الفقى: فى البداية كانت كورونا ككلمة فى حد ذاتها مرعبة، فما بالنا بحالات نستقبلها، الرعب والخوف كان مسيطرا علينا، كيف سنتعامل مع حالات مرضى بفيروس مجهول، غير معروف ماهيته، غير معروف العلاج، غير ثابت الأعراض، أعراض مختلفة من حالة لحالة، تفاصيل مختلفة من حالة لأخرى، الوضع كان غامضا والرعب والخوف مسيطرا على كثير منا، لكن بدأنا التعامل مع الحالات، ومع مرور الوقت بدأ الشعور بالرعب يقل تدريجيا، بدأنا نرصد أكثر الأعراض المتكررة، واعتمدنا على بروتوكول علاجى، لم تكن لدينا مشكلة فى البداية فى توفر الإمكانيات والمستلزمات وأدوات الوقاية الشخصية والتعقيم، وبدأت الأمور تسير».
الاعتياد على التعامل مع مرضى رعاية مركزة من قبل يختلف كثيرا عن التعامل مع مريض كورونا بالرعاية المركزة، هذا الاختلاف فسره دكتور محمد صابر بقوله «مريض العناية المركزة العادى مريض أعرفه جيدا، أعرف مرضه، أعرف أعراضه، أعرف تشخيصه، وحتى أعرف علاجه، أما كورونا فأعراضه تختلف من شخص لآخر، كما أن المرض نفسه كان لا يزال مجهولا بالنسبة لنا، ثالثا لا يوجد علاج واضح ومحدد للفيروس نفسه، رابعا والأهم هو التعامل مع مريض يرى الموت أمامه، الشعور باقتراب الموت هو الشعور المسيطر عليه، مريض سمع عن وفاة مريض بجواره أوتدهور حالة آخر بجانبه، فلنا أن نتخيل التعامل مع مريض بهذه الحالة النفسية خاصة وأن أغلبهم أعمارهم ليست كبيرة، مريض يتوقع وضعه على جهاز تنفس صناعى فى أى وقت، وهنا كان أهم جزء هو الاهتمام بالجانب النفسى للمريض بجانب العلاج الدوائى والتدخل الطبى، كيفية التعامل نفسيا معهم، كيفية طمأنتهم، وإقناعهم بأن ربنا كبير وقادر على شفائهم، الصعب فى الموضوع هو ارتداء الماسكات والنظارة والفيس شيلد يعيق التعامل، فلا تسمح باستخدام تعبيرات الوجه فى التعامل كالضحك، الابتسامة، وغيرهما من التعبيرات المطمئنة للمريض، بالعكس تعد عائقا، فإن يرى المريض أن الطبيب أو الممرضة ومن يتعامل معه يدخل عليه بكل هذا الحذر والحيطة لدرجة إخفائه لكل جسده ووجهه ويده فيعتبر أن ما بداخله من مرض وما يحمله من فيروس خطرا كبيرا لهذه الدرجة فيزيد الخوف لديه، يبقى لنا التعامل بالصوت والكلمات الهادئة والعبارات المطمئنة والدعاء والحديث عن إمكانية الشفاء».
موقفان يعتبرهما الدكتور الفقى من أكثر المواقف المؤثرة التى لا ينساها، الأول يروى الموقف الأول ويقول «فى بداية عملنا بالمستشفى استقبلنا حالة لأم ليست كبيرة فى السن فى الثلاثينات تقريبا، أعراضها ليست خطيرة، تم التعامل معها وحجزها وبدأ التمريض تطبيق البرتوكول العلاجى معها، وفجأة فى اليوم الثانى تلقينا اتصال بتحويل ابنتها إلى المستشفى مصابة أيضا، الأم لا تعرف بإصابة ابنتها صاحبة الـ١١ عاما، لا تعرف أنها ستدخل معها فى نفس الغرفة، الكل يتساءل كيف لنا أن نخبرها أن ابنتها ستحل عليها ليس ضيفا ولكنها مريضة، الموقف فى غاية الصعوبة، وقتها كنت أنا المسؤول عن استقبال الحالة «الابنة»، لحظة صعبة أن أخبرها أننى أحضر لها مفاجأة غير سارة، حاولت قدر الإمكان طمأنتها على حالة ابنتها قبل دخولها، دخلت الابنة، اللحظة صعبة، الأم تبكى، تحتضن ابنتها بشدة، الأم وابنتها كانتا حديث المستشفى فى تلك الأثناء، الكل يدعو لهما، ويهتم بهما، حتى جاءت نتيجة المسحة سلبية لكلتيهما، وخرجتا بسلام بينهما ساعات قليلة.
حالة أحد زملائنا فى الفريق الطبى كانت هى الموقف الثانى، الحالة مصنفة خطيرة، لأنها تعانى من مرض مزمن «ضغط وسكر»، فور وصولها دخلت عناية مركزة، ثانى يوم تم وضعها على جهاز تنفس صناعى، الحالة توفاها الله، زميلنا وقف أمامها منهارا فى العناية المركزة وسط اتصالات والدته لتسأل عن أختها، وأبنائها، كانت من أوائل الحالات التى أدينا عليها صلاة الجنازة بالمستشفى.
أما أكثر المواقف رعبا وخوفا فكانت أثناء مروره على المرضى بقسم الحجز الداخلى حيث وجد مريضا انخفضت نسبة الأكسجين لديه ويحتاج فورا الدخول للرعاية المركزة، فى تلك اللحظة يقول دكتور الفقى: لم أكن فى كامل الملابس الوقائية التى تلزم الدخول بمريض للوضع على جهاز تنفس صناعى، وكانت المخاطرة والمغامرة أن أنقذ المريض فلن يحتمل حتى الذهاب للعناية المركزة، سريعا طلبت من التمريض أنبوبة حنجرية ومنظارا لإنقاذه بالأكسجين، وبفضل الله أنقذته، كانت مغامرة، ظللت بعدها ليومين فى حالة رعب وخوف، فكان بينى وبين حلق المريض عدة سنتيمترات، وتوقعت الإصابة جديا، ظللت منتظرا ظهور الأعراض فى أى لحظة، ولكن بفضل الله لم تحدث لى إصابة وقتها».
الدكتور محمد الفقى يكشف أن «الملابس الشخصية منها ما يتم تعقيمه وارتداؤه مرة أخرى مثل النظارة والبوت وبعض البدل يتم تطهيرها، ومنها ما يستخدم مرة واحدة ويتم التخلص منه مثل الجوانتى أو ماسك أو جاون أو أوفر هيد وأوفر شوز، ويضيف استخدمنا فى البداية البدل التى يعاد تعقيمها ولكن مع القلق الزائد بدأنا نستخدم البدل التى نستخدمها مرة واحدة، وكانت تواجهنا مشكلة فى المقاسات بالنسبة لبعض الزملاء من ذوي البدانة، ومع مشكلة المقاس، كانت لديهم مشكلة أخرى فى التنفس والنهجان مع كل هذا اللبس».
مضيفا «فى المتوسط نحتاج إلى ربع ساعة لارتداء الواقيات الشخصية، نساعد بعضنا البعض فى اللبس والتعقيم، كنا من ٤ إلى ٦ أطباء فى الشفت، نساعد بعضنا للتأكد من عدم وجود أى فرصة لدخول أى شىء» لا نترك «خرم إبرة» من كثرة الرعب فى البداية، حتى الفراغات بين الماسك والنظارة أو بين الماسك والبدلة يتم ملؤها بـ«البلاستر»، لنجدها تاركة علامات وخطوطا على وجهنا، بعضنا زيادة فى الحرص يستخدم الفيس شيلد لكنه يعيق الرؤية مع النظارة نظل بهذا الشكل وهذا التقيد داخل الملابس مدة لا تقل عن أربع ساعات، بل وتزيد، فى غرفة خلع الملابس يتم الخلع بطريقة آمنة حتى لا تحدث عدوى أيضا، ملابسنا كلها مبتلة من العرق «تتعصر» خاصة فى الفترة التى عملنا فيها فى الصيف فى الموجة الأولى، والخروج من هذه الملابس أشبه بأننا «نكون فى قبر ونخرج منه للهواء».
التمريض.. معركة الـ١٢ ساعة
وسط اثنين من المرضى أو أكثر يقضى تمريض الرعاية المركزة لحالات فيروس كورونا المستجد ١٢ ساعة، هى مدة شفت التمريض، تتخللها راحة نصف ساعة أو ساعة، ملازمة المريض أساس العمل، لمتابعة حالته الصحية، عينا الممرض دائما على شاشة المونيتور، بجانب تنفيذ خطة الطبيب فى العلاج وإعطاء الأدوية، يقوم بإطعام المريض، تغيير ملابسه، المساعدة فى الحمام، وغيرها من المتطلبات التى تقتضى القرب من المريض لمسافة قد لا تتعدى بضع سنتيمترات، مراعاة الجانب النفسى جزء لا يتجزأ من عمل التمريض، لذا فالحديث مع المرضى ممن تسمح حالتهم الصحية بالحديث شىء أساسى، أى من هذه الأمور بالتأكيد هو فرصة واحتمالية لمخاطر العدوى.
عشرة أشهر حتى الآن وهى وسط حالات العناية المركزة لمرضى فيروس كورونا المستجد، أميرة إبراهيم إخصائى تمريض عناية مركزة بمستشفى العجمى للعزل تروى حكايتها قائلة «كانت المخاوف التى تقال من البداية واحتمالية انتقال العدوى من مجرد الاقتراب من المريض هى المشكلة، بالنسبة لنا الخوف فقط كان فى اليوم الأول، الوضع كله غريب، فى البداية الشفت كان ١٢ ساعة، وعندما تعرض البعض للإجهاد والهبوط تم تقسيم الشفت لست ساعات وفترة راحة ثم تكملة الشفت، الوضع فى بداية الموجة الأولى كان أكثر صعوبة، المرضى يأتون فى حالة متأخرة، الكثيرون ليسوا على دراية بالفيروس الجديد، يلجأون للمشورة الطبية بعد أسبوعين أو أكثر من الإصابة، يحضرون بعد تأكد الإصابة، رغم معرفتنا بخلفية عن الفيروس، إلا أن التعامل مع الفيروس كان بمثابة التعامل مع عدو مخيف، وفكرة أن لمس المريض قد تؤدى للعدوى كانت مخيفة، ورغم ذلك فالأمر قد يتطلب الاقتراب من الحالات بمسافة قريبة جدا، ومن الممكن احتضان الحالات لتحريكها، أو لمساعدتها فى الجلوس، ممكن يتطلب الوضع حمله ومساعدته، أنا كتمريض متخذة احتياطات الوقاية، المريض لا حول له ولا قوة، فلا يمكن منع متطلبات حركته، بجانب الدعم النفسى والطاقة الإيجابية للمرضى، وهنا أتذكر إحدى الحالات تطلبت حالته الوضع على جهاز تنفس صناعى على أنبوبة حنجرية، وبمجرد معرفة المريض كان خائفا جدا، وقال للدكتور أنه لو تم وضعه على الجهاز سيموت فى لحظتها، وقرر الدكتور اختيار وضع آخر لجهاز التنفس الصناعى، وكنا باللفظ «نعافر معه» حتى لا يوضع على الأنبوبة الحنجرية، ومن كثرة تمسكه بالحياة كان ينفذ كل ما نطلبه منه وبفضل الطاقة الإيجابية والدعم النفسى تحسنت حالته وخرج من العناية المركزة فالدعم النفسى مهم، وبعض الحالات الطاقة الإيجابية والدعم يجدى معها وحالات أخرى مهما قلنا لا يجدى معها فالحالة النفسية للمريض، تؤثر بنسبة قد تصل لـ٩٠ فى المائة.
تتذكر أميرة إحدى الحالات كان على يقين تام بأنه سيموت وكان دائم قراءة القرآن ومن كثرة الضغط يدخل فى غيبوبة مع نفسه ثم يعود مرة أخرى ليقرأ القرآن، لكنه بفضل الله خرج».
«التمريض مطحون فى مواجهة فيروس كورونا « هكذا تكمل أميرة حديثها قائلة « ١٢ ساعة لا أستطيع ذكر كيف تمضى هذه الفترة، ففى بعض الأيام يكون الشغل كثيرا جدا لدرجة أنه لا وقت حتى للراحة لدقائق على الكرسى، فتمضى الـ١٢ ساعة ولا أشعر بالوقت من كثرة العمل، وأحيانا يكون الضغط أقل نسبيا وأستطيع «آخذ نفسى» كما يقال، وأخذ النفس هنا حرفيا أن نخرج من الغرفة نرفع الماسك ونتنفس ونرجع مرة أخرى، العناية لدينا بها ٢٠ سريرا، بواقع ٦ أو ٥ من التمريض فى الشفت، فالممرضة غالبا تتابع ٤ حالات وهذا رقم كبير يمثل ضغطا ويتطلب يقظة بالإضافة إلى ضغط اللبس نفسه، فالبدلة «الصفراء» كانت ثقيلة وتقيد الحركة نسبيا، وما تحدثه من إجهاد، حتى توفرت البدل أحادية الاستخدام، شعرت أننى أتحرك بحرية أكثر، فقد اعتدت على العمل بملابس أصعب، فجاء الأسهل لنشعر به وأنه أسهل فى الحركة».
تحكى أميرة أصعب المواقف التى تتذكرها قائلة «الحالة كانت لطبيب مصاب بفيروس كورونا المستجد وحالته تطلبت الوضع على جهاز تنفس صناعى، ولأنه يعرف خطورة الحالة وماذا يعنى أن يوضع على الجهاز طلب الحديث مع أهله، كانت بمثابة مكالمة وداع، كانت مكالمة صعبة جدا كان شعورا أقرب إلى الانهيار أن نعطى التليفون لمريض ليودع أهله، وتوفاه الله».
تتذكر أن أول مرة ارتدت فيها البدلة «الصفراء» التى يعاد تعقيمها شعرت بهبوط وتقول ، بدلة بهذه المواصفات مع ماسك وفيس شيلد فعليا كانت تسحب كل الماء من الجسم، واذا لم يتناول الشخص الماء والطعام جيدا قبل ارتدائها سيتعرض للهبوط حتى قبل التعامل مع أى مريض، فالبدلة ثقيلة جدا، مشمع، مقفلة من كل ناحية، بجانب ماسك خانق، ونظارة تمتلئ بالبخار وكأنها شبورة تحجب الرؤية، كنا ننتظر فترة الراحة، ليس للأكل والشرب، وانما فقط للتنفس، التعامل بهذه الملابس طوال فترة الشفت ليس سهلا، فقبل ارتداء ملابس الحماية الشخصية نعد أنفسنا كأننا سندخل معركة، حربية، لا مجال للأكل ولا الشرب ولا الحمام، حتى مسألة خلع اللبس فى الراحة وارتدائها مرة أخرى كانت مخاطرة لذا نتحمل الـ٦ ساعات بأكملها، ثم نخرج للراحة لنكمل بعد ذلك باقى الشفت، ومن كثرة ضغط العمل وضغط اللبس، كثير منا تعرضوا لهبوط وسقطوا داخل غرف العناية، الموضوع صعب».
قادته الظروف أن يمر بتجربة صعبة وقاسية مثل هذه فى بداية حياته العملية، قضى سبعة أيام ضمن فترة الامتياز برعاية عزل الباطنة بقصر العينى الفرنساوى، لم يتردد عندما طرحت الكلية مسألة العمل فى أقسام العزل لإنهاء الامتياز، اعتبرها مهمة وطنية، وواجبه فى معركة الوباء، يتذكر أحمد حسين ممرض تفاصيل اليوم الأول «كان صعبا»، يقول: لم أكن أعرف أحدا، المكان له رهبة، معى الماسك الخاص بى وكذلك الفيس شيلد، استلمت باقى مستلزمات الحماية الشخصية، الأفارول، بدأت اللبس أول جوانتى اعتبره هو يدى ألصق عليه بلاستر، ثم أكمل اللبس، الماسك الـ٣M أعقمه باستمرار، أغير فلاتره، المشكلة كانت أننى مريض حساسية صدر والبقاء بالماسك فترة طويلة كان أمرا صعبا، الجو كان حرا، التكييف مغلق لدواع طبية، كنت أخرج «غرقان ميه»، اليوم أقل ما يقال عنه أنه «بشع»، اليوم كان طويلا، بعد ذلك الأمر تحول لأشبه بالروتين، تعودت على الإجراءات والخطوات»، مضيفا «الشفت ١٢ ساعة، مدة ليست بسيطة، فى منتصف الشفت يوجد راحة لمدة نصف ساعة أو ساعة، للراحة، الصلاة، الأكل أو الشرب، خلال الشفت أكون مسؤولا عن اثنين من المرضى، أجلس فى الوسط بين سريرى الرعاية المركزة، أراقب حالته الصحية، عبر المونيتور، أعطى أدوية بجانب مسؤوليات أخرى مثل مريض يحتاج أكل، آخر غيار، حمام، أقوم بدور مثل أبنائهم، أنفذ الخطة العلاجية الموضوعة من قبل الطبيب بدقة، لأنه لو حدث خلل ستسوء حالة المريض وسنحتاج لخطة بديلة وهذا سيكون أمرا متعبا للطبيب والتمريض والمريض نفسه، أتحدث مع المريض، فخلال الـ ١٢ ساعة أكيد كل منا يريد أن يتحدث إلى الآخر إذا كانت حالته تسمح بذلك».
خطر العدوى موجود، فالتعامل عن قرب مع المريض، ولمدة ليست قصيرة، أحمد حسين تعرض بالفعل للعدوى يحكى قائلا «قبل أن أعرف أننى مصاب بيوم، كنت فى الرعاية وظهرت أعراض كحة، سمعنى المرضى الذين أتابعهم، قال أحدهم، خد بالك كحتك دى مش حلوة، مش عادية، لم أركز كثيرا فى كلامه، لكن بعد انتهاء الشفت لم أشم رائحة الشاور، حتى البرفان لم أشم رائحته، بدأت أقلق، والمفترض أنه كان آخر يوم لى فى الشفت والتسليم الثامنة ليلا، فى صباح اليوم التالى أجريت المسحة كإجراء طبيعى قبل الخروج، تواصلت مع أسرتى فى طنطا لتجهيز غرفة لأعزل نفسى، سافرت وسط حالة من الانهيار لكل الأسرة، وكنا فى عيد الأضحى، انتظرت النتيجة، فى السابعة مساء، وصلتنى رسالة على الواتس آب بإيجابية النتيجة، فجأة وفى لحظة شعرت بكل أعراض فيروس كورونا، دقات قلبى تتسارع، عرق غزير، أشعر بشىء يقف فى الحلق، أصيبت بنوبة هلع، أتنفس بسرعة، نهجان، تمالكت نفسى وتواصلت مع أطباء يعرفوننى الدكتور أحمد الجيار والدكتور محمد شفيق، وطمأنونى وبدأت العلاج فى المنزل أول أربعة أيام، بعدها تطلبت الحالة التوجه للمستشفى، ثم خرجت وعملت واجريت ثانى مسحة بعد أسبوعين ومازالت إيجابية، وبعد أسبوع المسحة الثالثة سلبية بفضل الله، التجربة صعبة فى بداية العمل، فترة الامتياز، وصعوبتها جعلتنى لا أريد تكرارها، لم أندم عليها، كنت أقوم بواجبى، لكنها تجربة قاسية، أصبحت أتعب من أقل مجهود، نهجان حتى بصعود الدور الثانى، فقدت ٧ كيلو من وزنى خلال ١٨ يوما فترة إصابتى، تعرضت لتنمر من كثيرين بمجرد معرفتهم بمكان عملى، وأسمع عبارات «خليك مكانك، متقربش منى، شعرت أننى منبوذ، رغم عملى بغرف الرعاية المركزة منذ ٤ سنوات، لكن فترة عملى بغرف رعاية عزل كورونا تجربة صعبة بحق».
فى جائحة كورونا..العزل الأسرى الأكثر ألما
كل هذه المعاناة التى يعيشها الفريق الطبى داخل غرف الرعاية المركزة ومايرتدونه من ملابس واقية خانقة يتحملونها في سبيل أداء واجبهم يجعلهم يطلقون صرخة نصيحة لكل المصريين، أن الكمامة واتباع الاجراءات الاحترازية فرض علي كل مواطن، حماية لنفسه ولأسرته وللناس. ومن يتعب من الكمامة عليه ان يزور أحد مستشفيات العزل ليري ليس فقط معاناة المرضى، وانما ليرى أيضا معاناة الفريق الطبى مع الاطقم الواقية، ووقتهاسيشعر المواطن ان الكمامة رفاهية ولن يحدث هذا التهاون الذي نلمسه جميعا في الشارع المصرى.
وكما يقول الدكتور محمد صابر «عندما أتحرك فى أى مكان سوق، محل، مواصلات نفسى أصل إلى درجة أننى «أبوس إيد الناس» وأقول لهم التزموا بالإجراءات الاحترازية، حافظوا على أنفسكم وغيركم، نفسى أقول لهم تعالوا شوفوا المريض على جهاز التنفس الصناعى شكله إيه، تعالوا شوفوا الملابس التى نرتديها كفريق طبى حتى تدركوا الرفاهية التى تعيشون فيها للأسف الكثيرون يعيشون فى دنيا والفريق الطبى فى مستشفيات العزل فى دنيا أخرى، أحاول قدر الإمكان التحدث لهم عن أهمية أن يحافظ الشخص على نفسه وألا يؤذى غيره فقد يكون مصابا بلا أعراض ويصيب شخصا آخر تكون لديه عوامل خطورة فيتأذى، وندعو الله أن يحفظنا جميعا ويحفظ بلادنا».
صابر رغم سعادته باللقاح وتأكيده أنه خطوة مهمة لمزيد من الحماية للفريق الطبى لكنه يؤكد أنه لن يمنع الإجراءات الوقائية ولن يرحم الأطباء من الملابس الواقية وإنما سيضيف حماية أخرى لهم.
الدكتور محمود عكاشة يوجه نفس الصرخة قائلا «للأسف مازلنا نتعامل مع الوضع بنوع من الاستهتار، ويطالب بمزيد من الالتزام بالإجراءات الوقائية من التباعد وارتداء الكمامة، حتى نتخطى الموجة الثانية بأمان، فالخطر ما زال قائما حتى مع التطعيم باللقاح الجديد لا بديل عن الإجراءات الوقائية».
 
 
 
 

اترك تعليق

التعليقات

لا توجد تعليقات