الحكايات الأخيرة.. الحب والموت وقصص لم تُرْوَ من قبلُ عن جائحة كورونا (القاهرة 24)
2021-02-28 02:00:00
كتب / عبدالله ابوضيف (القاهرة 24)
عندما فقدت والدي، كان لموقفنا الأخير ذكراه التي لا أعتقدها ستنسى، المكالمة التي لم تكمل الدقيقتين وكان بينهما التحيات الرتيبة التي يجب أن تتقدم كل مكالماتنا البعيدة، الدموع التي تنهمر في كل مرة تأتي ذكراه في بالي والتي لا تنقطع ربما.. على مدار عام لم يكن يجعلني أبكي بعد تفكير كبير، سوى أنه كان هناك حكايات أخيرة لم يأتِ وقتها لروايتها، ومع فقدانه أصبحت قصصًا لم تُرْوَ.
في عام كورونا، اجتاحت الأزمة المنازل المصرية، من فقدن أزواجهن، قصص البطولة في تربية الأبناء بعد وفاة رب الأسرة الطبيب أو المسن، الأخ أو الصديق.. الانكسار في أعين الرجال الذين ما عادوا يحتضنون زوجاتهن بعد سنوات من المحبة توقفت أنفاس أصحابها بعدما اختار كورونا أحباءهم، القصاصات غير القابلة للحرق في ذكريات تحولت إلى مشاعر في قلوب كل منهم، منها ما كان الفقد هو بطله الرئيسي، أو الأمل الذي يرنو أن يصبح سمة العام الجديد.. وبين مآسي الرواية وآلاف الوفيات الذين حصدت أرواحهم الأزمة بقيت حكايات أخيرة لم تُرْوَ في الجائحة.
كورونا جائحة أيضا في الفقد
في قوص بقنا، تنتظر الأسرة المولودة الجديدة، لتضاف لسجل العائلة، وتشيع الابتسامة محل كآبة، تسببت فيها الجائحة للعالم، أن يواجهوها باسم "جميلة" ليصبح العام باسم الطفلة لا باسم الجائحة، وفي ظل ذلك وبينما يستعدون لرواية حكاية جديدة في عمر العائلة، حتى اكتشفوا إصابة الأخ الأصغر العريس، الذي لم يكمل شيئًا وينتظر ابنته الأولى.. أصابته الجائحة.
تقول هبة التي أصبحت من الناجين من الجائحة، بعد فقدانها 3 من أشقائها، إن الأسرة لم تكد تصدق، عمرو الذي لم يكن يشتكي من شيء أصبح في نطاق الوفيات بدون حتى أن يروي لابنته المقبلة للعالم كيف انتظرها كل ذلك، أسبوع واحد فقط بعدها مرض الشقيق الأكبر عمرو، ومعه كالعادة شقيقه الذي كان بمثابة صاحب "أمجد"، لم نكن نعرف ماذا حدث الأسرة التي تملأ الأرض أصبحت مهددة بحكم كورونا.
كان كل ما يشغل هبة شقيقتهم ضمن 5 أفراد في العائلة أن لا يصيبها الحزن مرة أخرى، لأيمن 3 أبناء، وكذا أمجد ونحن ثلاثة غيرهم، لكن ما أن تحولوا للمستشفى حتى ساءت الظروف الصحية لكليهما، أمجد انتقل للمستشفى في الأقصر، بينما ساءت حالة أيمن أكثر، وبينما تحاول الأسرة أن تصل للمستشفى بشقيقهم الأكبر لفظ أنفاسه الأخيرة.
بين هذا وذلك تشير هبة إلى أن اتصالًا هاتفيًّا جاءهم بأن أمجد هو الآخر قد توفي متأثرًا بكورونا، لتفقد الأسرة 3 أشقاء مرة واحدة بكورونا، أكثر ما أبكى الشقيقة أنها لم تتمكن من وداعهم بالشكل الذي يليق بكونهم أشقاءها: "مالفرق بينهم وبين الغريب إذا لم أكن أستطيع احتضانهم كوداع أخير، أن يكون للطفلة المقبلة واسمها جميلة حكاية أخيرة تمثل شكل والدها وأعمامها قبل الوفاة.. لكن حكايتنا هي الجائحة".
قصاصة غير قابلة للحرق
في طنطا ولدت قصة حب مغايرة، الطبيب الذي يرى في أخرى ملجأ ربما أخير لحياته، كونها أكبر منه بـ4 سنوات لم يجعله يتراجع، متخذًا من مقولة أستاذهما معًا أحمد خالد توفيق رمزًا لحياتهما: "سأحبها حتى تحترق النجوم"، لم تحترق النجوم للدكتور وائل الطبيب في مدينة طنطا بالغربية، لكن توفيت رفيقة دربه الدكتورة رغدة بينما كان هو معزولًا بسبب إصابته بكورونا هو الآخر، ما أصعب أن لا ينظر الإنسان لعين حبيبه في لحظاته الأخيرة.
يقول وائل إن رغدة أكبر منه بـ4 سنوات، يمكن أن تعرف لماذا أحببتها من قصة وفاتها، حيث كانت حاملًا في الشهر الثامن، والجائحة منتشرة أخبارها في الأركان، ومع شقاها من ألم الحمل، خوفها على نقل الإصابة في ظل كونها طبيبة ولادة، كانت المواجهة قرارها، ماذا يمكن أن يصيب الشخص أكثر من أن لا يكون لديه قصته الخاصة التي يرويها في الفترات التي لن تتكرر مرة أخرى، لكن الجائحة كانت أكبر.. أصابتني أولًا ثم أصابتها وبدأت الحكاية الأخيرة.
قصاصات غير قابلة للحرق تخلد قصة حب وائل ورغدة، كان شاهدًا عليها أحمد خالد توفيق في صباهم، ثم بقيت منها طفلة صغيرة تمثل الأمل في رواية قصة بطولة لأم واجهت الصعاب خلال فترة حملها ولم تتحصل على إجازة رغم أحقيتها، ومراثي يدونها الدكتور وائل كتب في إحداها: "هان الود، أهان ودي عليك يا رغدتي، أهان عليك أن تأخذي جزءًا كبيرًا من روحي معك وتتركي لي جزءًا صغيرًا أتنفس به بالكاد، أهان عليك أن تتركيني وحيدًا وتذريني فردًا، أهان عليك أن تذهبي إلى لحدك وأن لا تعودي معي، أهان عليك أن تهون صحتي ويضعف عضدي بعد ما غادرتِ، فلم يبق لي وزير من أهلي من بعدك يشدد أزري وأشركه في كل أمري".
"لقد ملت حوائط المنزل من حديثي إليها جماد لم يعد يتحمل حديثي إليك فكيف بالبشر، أهان عليك أن تتركيني شبحا في جسد واهن، أهانت عليك عيوني، وهان دمعي وكل جفوني، لقد فرغ الدمع يا رغدتي فلم أعدي ابكي بدموع، أهان عليك قصصنا و حكايانا التي لم تكن تنتهي إلا بسقوط أحدنا فريسة لسلطان النوم عند الشروق، أهان عليك ان أقرأ وردي و دعائي وحيدا، أهان عليك ان أدعو دون أن اسمع صوت تأمينك خلفي،أهان عليك أن أموت وحيدا من دونك، أهان عليك أن أموت مرة كل ثانية من دونك، أهان عليك أن أموت ولا تغسلينني. أهان عليك أن لا تحملي كفني وتنزليني لحدي، أهان عليك أن أرثيك ولا ترثيني، أتراني هنت عليك يا رغدتي يا ملاكي. اتراني هنت، اني أراني وهنت. في القلب من في القلب إلا أنت".
اسمه البطل.. سيد نادي يموت فداءً لزميلته في العزل
في يوليو من العام الماضي 2020، حيث اشتدت الموجة الأولى في ذروتها لتنال أرواح عشرات الشهداء متأثرين بإصابتهم بكورونا في هذه الفترة، كان بطلًا يواجه في مستشفى سمالوط للعزل الصحي وهو الدكتور سيد نادي، تقول زوجته الدكتورة صفاء إن وفاته كانت غريبة للجميع، حيث دخلت للعناية مريض بعمر الـ72 عامًا وفي حاجة لتنفس عاجل، ليتصادف وجود طبيبة زميلة حامل في العزل، ليقرر أن يقدم الخدمة الطبية مكانها.
كان نفسي يكمل في حياتي شخص زيه".. بتماسك شديد تروي الطبيبة صفاء زوجة نادي الموقف المؤثر، حيث أصيب بعد الحادث بأيام بسيطة، وظل في العزل الصحي أسبوعين بينما اشتدت عليه الأعراض، ليحاولوا الحصول على بلازما دم إلا أن الإجراءات تأخرت بشكل أدى عدم حصوله عليها سوى في آخر ثلاثة أيام.. كان الوقت انقضى، ولم نتمكن من وداعه في النهاية.. توفى".
نعي الطبيب سيد نادي، كان من زوج الدكتورة نجوى الفولي التي أنقذها في العزل قائلًا: "أنا مدين لك بحياة زوجتي وابنتي"، يتبادل الأسرتان الزيارة الآن، لكن صفاء التي فقدت زوجها تشير إلى أن خسارتها كبيرة، ما من شيء يمكن تعويضها، ومع السيرة الطيبة لزوجها تعرف في النهاية أن "اللقاء نصيب".
**أم كريم.. عاملة في العزل وتعول ابنًا معاقًا
عندما يصل الإنسان لخمسينيات العمر، يعتبر أن ذلك هو أراذله، فما بين الجلوس في المنزل، العمل على الراحة الأبدية، التواق إلى الابتعاد عن المشكلات قدر الإمكان، ام كريم التي في عقدها السادس كسرت القاعدة، حيث تعمل في مستشفى صدر العباسية ما بين استقبال المرضى بشكل عام ومساعدة مرضى فيروس كورونا.
تقول ام كريم صاحبة الوجه البشوش إن حياتها عبارة عن أمل في التغيير، حيث تعول 3 بنات وابنا كان نصيبه من الدنيا الإعاقة، تعمل وزوجها على توفير النفقات شهريا منذ سنوات، لكن على الرغم من ذلك لم يجعلها تهمل في عملها حيث تقوم بمساعدة المرضى، والتغيير لهم ودعمهم نفسيًا.
ام كريم تغير الملابس أحيانًا للمرضى المتقاعدين، تشعرهم أنه مازال بإمكان أحد أن يقترب منهم، في كل مرة كان اليأس يقترب من حياتها، تقول لـ"القاهرة 24" بهذه الأعمال يدفع الله الأمل إلينا بشكل أكبر، ربما ما نقدمه يعود لنا بالفعل، ومن ثم نفاجيء بكرم الله وفضله الدائم.. حيث لم أصب بالفيروس رغم كل ذلك، ولم يمس أهلي سوء، ومع كل مرة يخرج شخص كنت سببًا في دعمه تبقى دعواه لي مستمرة، تبقى قصة أخيرة مع كل سرير في المستشفى يشفى من كان عليه من المصابين.
مركز تعليم لغُسل وفيات كورونا
وجد وحيد ومحمود نفسيهما في موقف لا يحسدان عليه، والدتهما المتوفاة متأثرة بإصابتها بفيروس كورونا لا يمكنهما دفنها بسبب امتناع مغسلة الموتى الحضور إلى المنزل خوفًا من انتقال العدوى.. وانتشر الخبر في أرجاء قريتهما "مائة داوود" بمحافظة المنوفية ليظهر فجأة أحد أبناء القرية ويدعى شريف صقر "39" عاما ليساعدهما عبر الهاتف المحمول بكيفية اتباع الإجراءات السليمة وهو ما تم بالفعل، بعدها فكر شريف في مبادرته (مدرسة غُسل الموتى) التي ساهمت في وجود أكثر من 15 مغُسلًا لوفيات كورونا.
"شريف" أوضح أن لديه 3 أبناء، وأسرته منتشرة في محافظة المنوفية، لا يضمن يومًا أن يكون واحد من ضمن المصابين وربما يتدهور الأمر أكثر، وبالتالي لا يتمنى أن يتعرضوا لنفس الموقف، أو أن يكون أحدهم غير مكرم ولو بالدفن تحت الثرى، ومن ثم لجأ إلى تنظيم دورات لتعليم غُسل الموتى، والأمر يؤتي ثماره فعلًا من المشاركة المجتمعية.
نحو مليون جنيه تكفلت بها المبادرة بمساعدة شركات خاصة لشراء تنك أكسجين، وعشرات الاسطوانات في محاولة للقيام بالدور المجتمعي الذي يساعد الجهات الحكومية المختصة في ملف فيروس كورونا، يؤكد شريف أن المبادرة تطوعية بالكاملة وبالمجان، لا يمكن الحصول على أي شيء مقابل عمل الخير، وهو أمر متعارف عليه بين المصريين.
"سلسبيل" 22 عامًا إحدى المتعلمات ضمن المبادرة، وهي طالبة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، بدأت رحلتها مع المبادرة في أعقاب معايشتها نفس الموقف، أشخاص حائرون لا يعرفون كيف يدفنون ذويهم بسبب رفض تغسيلهم من متخصصين، وفي النهاية يتم الأمر عن طريق وزارة الصحة والسكان، أو بمساعدتهم من متخصص عن بُعد، لتنخرط في التطوع للمساعدة.
تقول سلسبيل إنها رغم انتمائها لمحافظة المنوفية، لكنها أصبحت تتحرك إلى محافظات مجاورة للمساعدة في غُسل موتى فيروس كورونا، تجمع التبرعات لشراء أدوات وقاية مناسبة تمنع انتقال العدوى، وفي نفس الوقت تحاول قدر المستطاع مساعدة الآخرين وتعليمهم حتى لا يقع أحد في نفس الموقف، بمساعدة المبادرة التي حملت اسم "الدعم النفسي لمرضى ووفيات كورونا".
ولسه في القلب أمل
في فترة مبكرة من وجود كوفيد 19 بمصر، بدأت حرب محمود التي يأمل في أن يصمد ليرويها لمن بعده، حيث أصبح ضمن الطواقم الطبية لمواجهة فيروس كورونا المستجد بمصر، وعلى صغر سنه حاول في تقديم الخدمة الصحية في أكثر من منشىة صحية، فليس أصعب على الإنسان من أن ينظر خلفه دون أمل في المستقبل حتى لو كان كوفيد.
ومع الوقت تمرس محمود في القتال، يرتدي زيه الذي يتزين به أبطال الجيش الأبيض مثلما يرمز إليهم في مواجهتهم لفيروس كورونا، على وجهه الكمامة مثلما يضع الجندي حربته في الأزمنة العريقة، وسيفه أداة التطبيب المطلوبة لمداواة جرحاه، لكن كسب كوفيد 19 المعركة الأولى وأصيب محمود بالفيروس ما جعله يمكث في المنزل.
يحكي محمود أن المرة الأول كانت صعبة، لكن النزول للمواجهة لمرة ثانية لم يكن أيضًا سهلًا، في ذروة الموجة الأولى كان الوضع صعبًا على الجميع، وبالتأكيد كنت ضمنهم أصبت للمرة الثانية في حين يبدو لكوفيد أن الحرب انتهت بدون أن يآبه لأن الحرب عدة معارك، ومع المحاولات الشديدة كانت فترة المنزل هي الأصعب.
الجلوس في المنزل ورؤية أصدقاءك يتساقطون "مريعًا".. حب محمود لوالده والدته كان خوفه الأكبر وبينما هو يسقط للمرة الثانية، وتحول أمله في أن يستمر في المواجهة، في أن يستمر ومن حوله في النجاة من الجائحة، حيث كانت فترة بداية شهر مايو تحديدا صعبة بالنسبة لمحمود بالمقارنة بأي فترة سبقتها.
للمرة الثالثة ينهض محمود، يذهب للمستشفى، يواجه يبدو الأمر سهلًا بسيطًا، تبدأ في الانهماك ثم تصبح غارقا في معركة جديدة مع الوباء، ليسقط للمرة الثالثة مصابًا بالفيروس، حينها تسرب اليأس إلى قلب الطبيب المصري الشاب، عودة مرة آخرى للمنزل، هذه المرة كان الحب سلاح جديد بجانب الأمل حيث عقد خطوبته في القاهرة.
ثمة أمل لكن ليس من نصيبنا، هكذا يقول كافكا ملخصًا مجمل أعماله عن المواجهة، لكن محمود عبد الكريم يرى أن الأمل موجود دائما، الجائحة ليست الأولى في العالم، وبقي الإنسان يواجه يحلم يزيد من وعيه لمواجهة مقبلة، وهكذا وافق على النزول ضمن الأطقم الطبية لمستشفى إمبابة العام والمواجهة من جديد.